منصات التواصل: حرية تحت رحمة الخوارزميات

في زمن أصبح فيه الضوء الأزرق يضيء تفاصيل حياتنا أكثر من ضوء الشمس، تقدمت منصات التواصل الاجتماعي بوصفها منبرا حرا يتيح للجميع التعبير عن الرأي، ونسج العلاقات، ومشاركة الأحلام والانكسارات، حتى خيل إلينا أننا نعيش عصرا ذهبيا للحرية.لا رقابة، لا قيود، لا أبواب موصدة أمام الكلمات.لكن هذا الفضاء، الذي كان يوما حلما للحرية، بدأ يتحول تدريجيا إلى مساحة خاضعة لمنطق انتقائي، تفتح فيها الأبواب لبعض الأصوات، وتغلق في وجه أخرى.
ما يثير القلق اليوم ليس فقط الرقابة العلنية التي تمارسها الدول على ما يكتب في الفضاء الرقمي، بل الرقابة الخفية التي تمارسها المنصات نفسها، بأدواتها الذكية وخوارزمياتها، وتحت شعارات براقة من قبيل “محاربة الكراهية” أو”ضمان معايير المجتمع”. تحذف منشورات، وتحظر حسابات، وتخنق أصوات، ليس لأنها خالفت القانون، بل لأنها لامست خطوطا حمراء غير معلنة، أو دافعت عن قضايا تعتبرها هذه المنصات “حساسة”،وفي مقدمتها: القضية الفلسطينية.
في السنوات الأخيرة، أصبح التفاعل مع هذه القضية اختبارا حقيقيا لما يسمى بحرية التعبير في الفضاء الرقمي. صور لأطفال مكلومين، أو مقاطع توثق اعتداءات، أو حتى عبارات تضامن رمزية تحذف دون سابق إنذار، بحجة “خرق معايير النشر”. يجرد المحتوى من سياقه، ويعاقب الناشر، بينما تترك آلاف المنشورات الأخرى، التي تحض على الكراهية أو التطرف، تسبح في المنصة بحرية. المفارقة الصارخة هنا أن بعض الخوارزميات ترى في كلمة “مقاومة” خطرا، ولا ترى في الدعوة إلى العنصرية أو التهجير أي إشكال.
الأخطر من ذلك، أن هذه المنصات لا توجه فقط ما يقال، بل تعيد تشكيل الرأي العام بشكل غير مباشر. من خلال التحكم في نسب الوصول (Reach)، والترندات، والاقتراحات، تبرز أصوات معينة وتغيب أخرى. فتتحول المقالات الجادة إلى هامش، بينما تضخم مقاطع سطحية، أو محتوى استهلاكي، أو تحليلات موجهة تخدم روايات معينة. وهكذا، لم نعد فقط أمام سجن رأي، بل أمام”هندسة رأي”، تمارسها أدوات ذكية دون أن يشعر بها المستخدم.
الإشكال لا يكمن في وجود قوانين تنظم المحتوى، فهذا طبيعي في كل فضاء، بل في الانتقائية والانحياز. لماذا يحذف منشور يحمل علما لفلسطين ويترك منشور آخر يدعو لحرب؟ لماذا يمنع كاتب من مشاركة مقال يحلل أو يلمح أو يعبر عن تضامن، بينما تنشر يوميا آلاف الأخبار الكاذبة دون مساءلة؟ هذه الأسئلة لا تجيب عنها المنصات، بل ترد عليها بصمت بارد، أو برسالة جاهزة تبدأ غالبا بـ: “لقد قمنا بحذف منشورك لأنه يخالف معاييرنا…”.
في ظل هذا الواقع، يصبح التعبير موقفا شجاعا، والنشر مخاطرة. ليس لأننا نكتب ما يهدد السلم العام، بل لأننا نرفض الصمت. ولأننا نؤمن أن الدفاع عن القضايا العادلة، حتى ولو كان تلميحا، هو جزء من كرامة الكلمة، وواجب المثقف، ومهمة الصحفي. المنبر الحر لا يقاس بعدد المتابعين، بل بمقدار ما يتيح من حق في الاختلاف، وفي التعبير عن الألم، والاحتجاج، والرفض.
نعم، لا يمكن إنكار أن منصات التواصل منحتنا صوتا، وقربت المسافة بين الشعوب، وجعلت من القضايا المحلية شأنا عالميا. لكنها في الوقت نفسه، حين تقف على عتبة بعض القضايا، تضعف، وتراوغ، وتخضع الكلمة لمنطق الربح والخسارة، لا للعدالة والحق.
في النهاية، لم تعد المسألة مجرد كتابة أو نشر، بل أصبحت اختبارا يوميا للقدرة على قول ما يجب دون أن يحذف، والإشارة لما لا يقال دون أن تلغى. المنصات التي ولدت كفضاء للحرية باتت تعيد إنتاج الرقابة بأشكال ناعمة، تجعلنا نخشى الكلمة قبل أن نكتبها، ونراجع ضمائرنا بمنطق الخوارزميات لا بمنطق القيم.