الجامعة وسوق الشغل المتغير

في ظل التحولات العميقة التي يشهدها سوق الشغل عالميا ، تعود إلى الواجهة تساؤلات ملحة حول مدى قدرة الجامعة على تأهيل خريجيها لمهن المستقبل. فمع تسارع وتيرة الرقمنة، وظهور وظائف جديدة قائمة على الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الأخضر والمجالات الإبداعية، تبدو الحاجة إلى إعادة النظر في النموذج الجامعي التقليدي أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
يرى كثير من الخبراء أن جزءا ا كبيرا من التكوين الجامعي في العالم العربي، لا يزال أسير التخصصات النظرية والمناهج الكلاسيكية التي تركز على الحفظ والتلقين، في وقت باتت فيه أسواق العمل تبحث عن كفاءات مرنة، تتقن أدوات العصر، وتتمتع بقدرات تحليلية وتواصلية ومهارات رقمية متقدمة. هذا التناقض يفسر إلى حد بعيد استمرار ارتفاع نسب البطالة في صفوف خريجي الجامعات، رغم المؤهلات العلمية التي يحملونها.
فالواقع العملي يشير إلى فجوة واضحة بين مخرجات الجامعات ومتطلبات سوق الشغل. فالكثير من الخريجين يواجهون صعوبة في إيجاد فرص عمل تلائم تخصصاتهم، في حين تظل بعض القطاعات الحيوية تعاني من نقص في الكفاءات المؤهلة. هذا الأمر يدعو إلى ضرورة إعادة النظر في أساليب التكوين الجامعي، وتعزيز التعاون بين الجامعات والقطاع الخاص لضمان مواءمة التكوين مع الاحتياجات الحقيقية.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار بعض المبادرات الإيجابية التي شهدتها مؤسسات التعليم العالي المغربية ، سواء من خلال إدماج وحدات تطبيقية ومهنية، أو تشجيع روح المقاولة والابتكار، أو عقد شراكات مع الفاعلين الاقتصاديين. لكن هذه الجهود، رغم أهميتها، ما تزال مشتتة، وتفتقر إلى استراتيجية وطنية شاملة تربط بين التكوين وحاجيات سوق الشغل بشكل مباشر.
الجامعة اليوم مدعوة إلى تجاوز دورها التقليدي كمصدر للمعرفة النظرية، لتصبح فضاء ديناميا يواكب المستجدات، ويعيد تعريف مفهوم “الخريج الناجح”؛ ليس بناء على عدد الشهادات، بل بناء على الكفاءة في التكيف مع سوق يتغير باستمرار. وهذا يقتضي تحديث البرامج بشكل دوري، وتكوين الأساتذة بدورهم على التكنولوجيات الحديثة، وتطوير آليات التوجيه المهني منذ السنوات الأولى للدراسة.
فالرهان الحقيقي لا يكمن فقط في مواكبة الجامعة لسوق الشغل، بل في قدرتها على استشراف مهن الغد والمساهمة في صناعتها. فالعالم لم يعد ينتظر، ومن لا يواكب قد يتخلف عن الركب، تاركا اجيالا بأكملها في مواجهة المجهول.