جيل “اللايقين”: شباب على حافة مستقبل غامض

إن جيل اليوم يقف على حافة زمن غامض، تحكمه التغيرات المتسارعة أكثر مما تحكمه الثوابت، وتتشابك داخله الأسئلة أكثر مما تتضح الإجابات. إنه جيل يعيش في قلب ما يمكن تسميته بـ”اللايقين”، حيث تتلاشى الحدود بين الممكن والمستحيل، وتضيع ملامح المستقبل في ضباب دائم. ليس الأمر مجرد إحساس فردي بالقلق، بل هو حالة عامة تتقاسمها فئات واسعة من الشباب، الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين أحلام كبيرة وواقع متشظ لا يمنحهم ما يكفي من اليقين كي يبنوا عليه خياراتهم.
الظروف العالمية أسهمت في تكريس هذا الوضع. فالأزمات الاقتصادية المتكررة، والتحولات التكنولوجية المتسارعة، والتغيرات المناخية المهددة، والنزاعات السياسية المستعصية؛ كلها عناصر جعلت المستقبل يبدو وكأنه مسرح هش، لا يمكن الوثوق بأرضيته. وإذا كانت الأجيال السابقة تنظر إلى الغد كامتداد طبيعي لليوم، فإن هذا الجيل ينظر إليه كقفزة في فراغ مفتوح على احتمالات متناقضة: نجاح أو انهيار، أمان أو فوضى، فرص غير مسبوقة أو انسداد شامل. وهذا التناقض هو ما يجعل القلق سمة يومية تلاحقهم في دراستهم، في خياراتهم المهنية، وحتى في أبسط تفاصيل حياتهم الشخصية.
يعيش الشباب حالة من التوتر بين خطاب عالمي يعدهم بأنهم “قادة المستقبل”، وبين واقع يعري هشاشة هذا الوعد. فمن جهة، تسوق التكنولوجيا والاقتصاد المعرفي لهم صورة براقة عن فرص العمل الحر والابتكار وريادة الأعمال، ومن جهة أخرى يواجهون نسب بطالة مرتفعة، وتضاؤلا في الوظائف التقليدية، وغموضا في المسارات المهنية. هذا التناقض يولد شعورا عميقا باللايقين: أي مستقبل ينتظرهم؟ هل ما يدرسون اليوم سيظل مطلوبا غدا؟ وهل الجهد المبذول سيقود فعلا إلى استقرار وكرامة، أم أن الأرض ستنقلب فجأة تحت أقدامهم؟
ولا يقتصر اللايقين على الجانب الاقتصادي أو المهني، بل يمتد إلى الهوية نفسها. فالعالم الرقمي الذي يوفر فضاءات غير محدودة للتعبير، خلق في الوقت ذاته أزمة انتماء: من هو هذا الفرد الذي يطل كل يوم عبر عشرات الواجهات الافتراضية؟ هل هو الشخص نفسه في الواقع؟ هل الانتماء إلى وطن محدد لا يزال ذا معنى في زمن العولمة والفضاءات المفتوحة؟ هل القيم التقليدية قادرة على الصمود أمام سيل من القيم الجديدة المتناقضة التي يتلقاها الشباب يوميا عبر الشاشات؟ هذه الأسئلة تلاحقهم وتضاعف من شعورهم باللايقين.
اللايقين أيضا له بعد نفسي عميق، إذ يتحول القلق المستمر إلى نمط حياة، يتجلى في اضطرابات النوم، وفي التوتر الدائم، وفي شعور باللاجدوى أحيانا. وكثيرا ما يترجم ذلك إلى انسحاب من المشاركة العامة، أو إلى لجوء إلى عوالم بديلة مثل ألعاب الفيديو أو شبكات التواصل، حيث يجد الشباب عزاء مؤقتا من قسوة الواقع. لكن هذه العوالم الافتراضية، بدل أن تمنحهم يقينا، تعمق أحيانا غربتهم عن أنفسهم وعن محيطهم.
ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى جيل “اللايقين” بوصفه جيلا مستسلما. ففي وسط هذا القلق، هناك حيوية بحث دائم عن معنى، ورغبة في كسر أنماط التفكير التقليدي، ومحاولات لإيجاد طرق جديدة للعيش والعمل والإبداع. اللايقين قد يكون نقمة إذا استسلم له الفرد، لكنه أيضا يمكن أن يكون دافعا للابتكار، لأن من لا يملك يقينا نهائيا يظل في حركة مستمرة للبحث، وللتجريب، وللاكتشاف.
إن ما يعيشه الشباب اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل هو انعكاس لعصر يتغير بسرعة أكبر من قدرة الأفراد والمجتمعات على الاستيعاب. السؤال الحقيقي ليس: كيف نعيد لهم اليقين؟ بل: كيف نمنحهم الأدوات التي تجعلهم قادرين على التعايش مع اللايقين، وتحويله إلى فرصة للنمو لا إلى عبء نفسي واجتماعي؟ هنا تبرز أهمية التعليم النقدي، والدعم النفسي، وخلق فضاءات للحوار، وتشجيع روح المبادرة بدل انتظار الحلول الجاهزة. فجيل اللايقين، إذا ما وجد من يرافقه ويفهم هواجسه، قادر أن يحول قلقه إلى طاقة خلاقة، وأن يبني مستقبلا أكثر مرونة في مواجهة عواصف الغد.