الوعي البصري والقراءة النقدية

في عصر تتسارع فيه الصور وتنتشر بسرعة الضوء عبر الشاشات، يبدو أن القدرة على القراءة البصرية قد تفوقت على القراءة العقلية لدى كثير من الشباب. فالصورة، بجاذبيتها الفورية، تستحوذ على الانتباه وتفرض نفسها قبل أن تمنح العقل فرصة التحليل. فلم تعد المعاني تستوعب بالقراءة العميقة أو التفكير النقدي، بل عبر الانطباعات السريعة التي تولدها المشاهد البصرية، سواء كانت على وسائل التواصل الاجتماعي، أو في الإعلانات، أو في مقاطع الفيديو القصيرة.
هذه الظاهرة تعكس تحولا في أساليب التعلم والإدراك، إذ صار الجيل الجديد يعتمد بشكل أكبر على ما يرى مباشرة، ويعطي أهمية أقل لما يفكر فيه ويحلل. وفي المقابل، تقل القدرة على التعامل مع النصوص الطويلة، وفهم التفاصيل الدقيقة، وربط الأحداث ببعضها بعضا. فالصور تختزل الخبر والحدث في لحظة، وتمنح شعورا بالقرب والوضوح، لكنها غالبا لا تمنح الأدوات اللازمة لفهم السياق أو تقييم الحقيقة.
إن هذا الاعتماد على القراءة البصرية على حساب العقلية النقدية له آثار واضحة على الفكر والمجتمع. فالشاب الذي يكتفي بالصور قد يتشكل لديه فهم جزئي أو مشوه للواقع، لأنه يستجيب للانفعالات أكثر مما يستجيب للمعطيات العقلية. وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي، يمكن أن تتحول الصورة إلى وسيلة للتأثير على الرأي العام بسرعة، من دون أن يكون لدى المتلقي القدرة على التمييز بين الحقيقة والتزييف.
من هنا، يبرز تحدي العصر: كيف نوازن بين قوة الصورة وسرعتها وبين أهمية التفكير والتحليل؟ الحل لا يكمن في رفض الصورة أو إقصائها، فهي لغة العصر وأداته الأقوى، بل في الموازنة بين ما تمنحه العين من انطباع سريع وما يضيفه العقل من تحليل متأن. فالجيل الذي يكتفي بالنظر قد يظن أنه يملك المعرفة، لكنه في الحقيقة يملك مجرد انعكاسها السطحي. وحده الدمج بين القراءة البصرية والقراءة العقلية هو ما يضمن وعيا حقيقيا، يتجاوز الانفعال اللحظي ليصوغ رؤية نقدية قادرة على فهم العالم لا مجرد مشاهدته.