سرعة ضد الفهم

في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، وتعدد المنصات التعليمية والترفيهية، نشهد تحولا لافتا في علاقة التلاميذ والطلبة بالمعرفة. فبينما كانت الأجيال السابقة تنهل من الكتب والمراجع لساعات طويلة، أصبح الكثير من أبناء هذا الجيل يميلون إلى اختزال المعرفة في دقائق معدودة، يستهلكونها عبر ملخصات مرئية أو نصوص قصيرة تعرض بأسلوب سريع، دون التعمق في المحتوى الأصلي. لقد أصبحت ثقافة “السرعة” هي العنوان الأبرز لممارسات التعلم في المؤسسات التعليمية وخارجها، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة المعرفة التي نتلقاها اليوم، وعمقها، وأثرها الحقيقي في بناء الفكر النقدي والقدرة التحليلية.
يتزايد الاعتماد على “الملخصات” كوسيلة لتجاوز كثافة المقررات الدراسية وضغط الامتحانات، وغالبا ما يبرر الطلبة والتلاميذ هذا السلوك بضيق الوقت وتعدد الالتزامات. فتلميذ اليوم، الذي يقضي ساعات طويلة أمام الشاشات، ويعيش تحت ضغط الإنجاز الفوري، يجد في المقاطع التعليمية القصيرة أو التطبيقات التي تقدم خلاصة الكتب حلا “عمليا” لمشكلاته الزمنية. غير أن هذا الحل السريع قد يتحول إلى فخ معرفي، إذ لا يمنح صاحبه فهما عميقا، ولا يساعده على ربط المعلومات، أو تطوير فكر تحليلي قادر على مساءلة ما يقدم له.
في واقع الأمر، لا يمكن إنكار بعض إيجابيات هذه الأدوات الحديثة، خاصة حين تستعمل بشكل مكمل لا بديل، لكن الإشكال يكمن حين تتحول إلى القاعدة، وتستبدل بها العملية التعليمية المتكاملة. فالثقافة القائمة على “ما يلزمك فقط لتنجح في الامتحان” تفرغ المعرفة من بعدها الإنساني والتكويني، وتحول التعلم إلى عملية استهلاك سطحي لمعلومة تنسى بسرعة، لا إلى رحلة بحث وتراكم تؤسس لشخصية مثقفة وواعية.
يبدو أننا أمام مفارقة جلية: حيث لم يكن الوصول إلى المعرفة يوما بهذه السهولة، ولم يكن النفور منها بهذا الاتساع. فرغم توفر آلاف المصادر بنقرة واحدة، يفضل الكثير من الشباب اليوم الطريق الأقصر، فيغيب عنهم جمال التعمق، ومتعة الاستكشاف، وقيمة القراءة الطويلة. وهنا لا يمكن تحميل المسؤولية لجيل ولد في عصر السرعة وحده، بل يفترض أن يكون النظام التربوي، والمناهج التعليمية، وأسلوب التقييم، شركاء في هذه الأزمة، إذ إنها لا تزال تكافئ الحفظ السريع أكثر مما تحتفي بالفهم العميق.
إن الحديث عن “جيل الملخصات” لا يعني بالضرورة السقوط في فخ التعميم أو جلد الذات، لكنه دعوة صريحة إلى إعادة التفكير في منظومة التعليم والثقافة التي نعيشها. فالمعرفة ليست مجرد نقاط في اختبار، ولا تقاس بمدة الفيديو أو عدد الأسطر، بل تبنى بالتدرج، وتهذب بالقراءة الهادئة، وتترسخ بالتأمل والتساؤل. وإذا لم ننجح في إعادة الاعتبار لهذه القيم في نفوس التلاميذ والطلبة، فقد ننتج أجيالا تعرف كل شيء… دون أن تفهم شيئا.