حين يهاجر العقل من الفصل إلى الشاشة: أزمة الانتباه المدرسي

يشهد الوسط التربوي في السنوات الأخيرة تحولا ملموسا في سلوك المتعلمين داخل الفصول الدراسية، حيث بات استعمال الهواتف الذكية يشكل ظاهرة مقلقة تؤثر بشكل مباشر على جودة التحصيل الدراسي. فقد أصبح من المألوف أن ينشغل التلاميذ أثناء الحصص الدراسية بتفقد هواتفهم، أو تصفح شبكات التواصل الاجتماعي، أو مشاهدة مقاطع قصيرة، بدل التركيز على الدروس والتفاعل مع المحتوى التعليمي. هذا الانشغال المتكرر يضعف الانتباه، ويشتت الذهن، ويربك العلاقة البيداغوجية بين التلميذ والأستاذ.
ترجع أسباب هذا التشتت إلى عوامل متعددة، أبرزها غياب وعي كاف بأهمية الانتباه كعنصر أساسي في العملية التعليمية، إضافة إلى الإدمان الرقمي المتزايد الذي أصبح يمس فئة واسعة من التلاميذ، خصوصا في مرحلة المراهقة. كما أن بعض الأسر، رغم إدراكها للأثر السلبي المفرط للهواتف، تكتفي بالمراقبة الشكلية دون توجيه فعال. وفي المقابل، تظل السياسات التربوية المتبعة غير كافية لمواجهة هذه الظاهرة بشكل جذري، حيث إن الإجراءات المتخذة تقتصر غالبا على المنع أو المصادرة، دون التفكير في حلول بديلة تقوم على التربية الرقمية والتمكين المعرفي.
من جهة أخرى، تشير تقارير دولية، من بينها تقرير منظمة اليونسكو حول التكنولوجيا والتعليم لسنة 2023، إلى أن الاستخدام غير المنضبط للأجهزة الذكية داخل الأقسام يؤدي إلى تراجع في مستويات الفهم والاستيعاب، ويضعف قدرة التلميذ على التركيز لفترات طويلة. كما يسجل تراجع متزايد في مهارات الإصغاء والتحليل، وهي من المهارات الجوهرية في التكوين التربوي.
في ظل هذا الوضع، يجد عدد من الأساتذة أنفسهم أمام تحد يومي في ضبط الانتباه داخل الفصل، حيث يضطر بعضهم إلى التكرار المستمر، أو التعامل مع حالات غياب ذهني، ما يؤثر سلبا على إيقاع الحصة الدراسية، وعلى التوازن داخل المجموعة الصفية. كما يعاني بعض التلاميذ من صعوبة في تنظيم وقتهم بين الدروس والانشغالات الرقمية، مما يؤدي إلى ضعف في الأداء الدراسي وفقدان الثقة بالنفس.
أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى مقاربة شمولية تعالج الظاهرة من مختلف جوانبها، بدءا من توعية التلاميذ بمخاطر التشتت الرقمي، مرورا بتكوين الأساتذة على التعامل التربوي مع الهواتف الذكية، ووصولا إلى إشراك الأسر في دور توجيهي فعال. كما يوصي مختصون بضرورة إدماج وحدات تعليمية تعنى بثقافة الانتباه، وتدريب المتعلمين على استراتيجيات التركيز، باعتبارها مهارات حياتية لا تقل أهمية عن المهارات الأكاديمية.
إن السؤال الجوهري لم يعد يقتصر على ما إذا كان يجب منع الهواتف داخل الفصول، بل يتجاوز ذلك إلى البحث في كيفية بناء وعي جديد يعيد الاعتبار لحضور العقل داخل القسم، ويربي الناشئة على الانضباط الذاتي في عصر يعج بالمغريات الرقمية. فالتحدي اليوم لم يعد تربويا فقط، بل هو أيضا ثقافي وسلوكي، يستدعي تضافر الجهود من أجل ضمان بيئة تعليمية سليمة تحترم ذكاء المتعلم وتحصنه ضد التشتت.