أزمة البحث العلمي

في عالم لم تعد تقاس فيه قوة الدول فقط بما تملكه من موارد طبيعية، بل بما تنتجه من معرفة وتحققه من ابتكار، أصبح البحث العلمي حجر الزاوية في أي مشروع تنموي طموح. وبينما تراهن دول كثيرة على دعم البحث كرافعة استراتيجية للنمو والتقدم، يواجه المغرب تحديات حقيقية في هذا المجال، رغم ما يبديه من إرادة لتجاوز الهوة وربح رهان اقتصاد المعرفة.
التقارير الدولية، وعلى رأسها تقارير الأمم المتحدة ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والبنك الدولي، تجمع على أن البحث العلمي أحد أعمدة الاقتصاد المعرفي في القرن الحادي والعشرين، وأن الاستثمار فيه عامل حاسم في تعزيز سيادة الدول على مواردها وقراراتها. في هذا السياق، انخرط المغرب في مجموعة من المبادرات لإرساء أسس منظومة بحثية وطنية، من خلال وضع استراتيجيات، ودعم الشراكات بين الجامعات والمؤسسات، والانفتاح على التعاون الدولي. ومع ذلك، تبقى إشكالية التمويل من أبرز العقبات، إذ لا تتجاوز الميزانية المخصصة للبحث العلمي 0.8 في المئة من الناتج الداخلي الخام، وهي نسبة تبقى دون المعدل العالمي الموصى به، الذي يتراوح بين 2 و3 في المئة.
انعكست هذه التحديات على الحضور الأكاديمي المغربي في التصنيفات العالمية، حيث لا تزال الجامعات الوطنية تعاني من ضعف في التموقع الدولي. ففي تصنيف شنغهاي لسنة 2024، أحد أبرز المؤشرات لقياس جودة التعليم العالي والبحث العلمي، لم تتمكن سوى جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء من دخول قائمة أفضل ألف جامعة عالميًا، بحلولها في المرتبة 901 وهي الأخيرة ضمن قائمة أفضل 1000 جامعة في العالم.ما يعكس محدودية التأثير العلمي للمؤسسات الجامعية المغربية.
أما في مؤشر الابتكار العالمي، فقد احتل المغرب المرتبة 74 من أصل 129 دولة وفق تقرير المعرفة العربي الثالث لسنة 2019، متأخرا عن عدد من الدول العربية التي استثمرت بشكل أوسع في البحث والتطوير، مثل الإمارات وقطر.
وتفاقم ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية هذا الوضع، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نسبة مهمة من الأطباء والمهندسين والباحثين العرب، من بينهم مغاربة، تهاجر سنويا نحو أوروبا وأمريكا الشمالية. وقدرت جامعة الدول العربية الخسائر الناتجة عن هذه الهجرة بأكثر من مئتي مليار دولار سنويا، في مشهد يعكس عمق الخلل في بيئة العمل العلمي داخل بلدانهم الأصلية، وغياب آليات كافية لتحفيز واستبقاء العقول.
وتبدو الفجوة أكثر وضوحا عند مقارنة الأرقام المغربية بنظيرتها في بلدان أخرى. فإسرائيل، على سبيل المثال، تنفق 4.7 في المئة من ناتجها القومي على البحث العلمي، وتحتل مرتبة متقدمة في الابتكار والتطوير التكنولوجي. أما الولايات المتحدة، فتخصص أكثر من 168 مليار دولار سنويا لهذا القطاع، أي نحو 32 في المئة من الإنفاق العالمي، بينما لا يتجاوز المتوسط العربي 0.2 في المئة.
ورغم هذه الصورة القاتمة، عرف المغرب مؤخرا بعض التحركات الإيجابية، فقد شهد المركب الجامعي لجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية بابن جرير، يوم الاثنين 07 أبريل 2025، تنظيم حفل رسمي تم خلاله الإعلان عن الإطلاق الرسمي للدورة الأولى للبرنامج الوطني لدعم البحث التنموي والابتكار (PNARDI)، وذلك بمبادرة مشتركة بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، ومؤسسة المجمع الشريف للفوسفاط، والمركز الوطني للبحث العلمي والتقني، وجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية. ويجسد هذا البرنامج، وفق ما أكده السيد الوزير عز الدين المداوي ، التوجه الاستراتيجي للوزارة نحو الارتقاء بالبحث العلمي والابتكار، عبر مقاربة تشاركية وتكاملية تنسجم مع الأولويات الوطنية، وتستجيب لتحديات السيادة العلمية والتكنولوجية للمملكة. كما يهدف البرنامج إلى دعم التميز العلمي في المجالات الاستراتيجية، ورفع أداء المنظومة الوطنية للبحث والابتكار، بما يواكب التطلعات الملكية السامية وانتظارات المواطن المغربي.
يعد البحث العلمي أحد المداخل الحيوية لأي تحول تنموي جاد، وهو مجال يرتبط بالاستثمار طويل الأمد في الإنسان والمعرفة. وبينما تسجل بعض المبادرات والمؤشرات تطورا ملحوظا في التجربة المغربية، فإن التحديات المرتبطة بالتمويل، وبنية النظام الجامعي، وربط البحث بسوق الشغل، ما تزال مطروحة بإلحاح.